إيران- حسابات خاطئة وتحديات متزايدة بعد طوفان الأقصى

إيران، تلك الدولة المحورية في قلب الشرق الأوسط، تمثّل لاعباً أساسياً، قوةً فاعلةً ومؤثرة، تتأثر وتؤثر في مجريات الأحداث المتسارعة في العالم العربي، ولا يخفى على أحد دعمها الراسخ للقضية الفلسطينية والمقاومة الباسلة، في لحظات عصيبة تخلّى فيها البعض من الأنظمة العربية عن نصرة الحق.
لا تهدف هذه المقالة إلى شنّ هجومٍ على إيران من منطلقٍ طائفي أو عرقي ضيق، ولا تسعى إلى استغلال تراجع نفوذها في سوريا أو ضعف حزب الله، الذي أثقلته أعباء العدوان الصهيوني على لبنان، ذلك البلد العربي الصغير بحجمه، الكبير بمواقفه الثابتة تجاه القضية الفلسطينية، بل تهدف إلى تقديم قراءة سياسية موضوعية، تتطلبها الضرورة لمواجهة المشروع الصهيوني الاستعماري المتغلغل في المنطقة.
مَظْلمة الشعب السوري
إذا كان للإنسان أن ينحاز، فليكن انحيازه للقيم النبيلة والأخلاق الرفيعة ومصالح الشعوب، وعلى رأسها مصلحة الشعب السوري العظيم، صاحب التاريخ العريق والمواقف الوطنية والعربية المشرفة، الذي لم يتوانَ عن دعم فلسطين ونضال الشعب الفلسطيني.
أي موقف إيجابي يصدر عن نظام عربي، هو انعكاس حقيقي لمواقف شعبه الأصيلة، وفي المقابل، فإن أي موقف سلبي لهذا النظام أو ذاك لا يعبّر بالضرورة عن تطلعات وآمال شعبه، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
في هذا السياق، فإن دعم نظام الأسد لفلسطين، ولحركة حماس في فترة ما قبل الثورة، يعكس بلا شك الموقف الأصيل للشعب السوري، ولكن هذا الدعم، على أهميته، لا يُجيز له ولا لغيره انتهاك حقوق الشعب السوري، واستباحة كرامته، ولا يبرر له فعل ما فعل من فظائع ومجازر تقشعر لها الأبدان، والتي انكشفت فصولها المروعة قبل وبعد سقوط النظام.
لقد أخطأت إيران خطأً فادحاً بوقوفها إلى جانب نظام الأسد الظالم، دون أن تسعى جاهدة لتقويمه وتصحيح مساره تجاه مظالم الشعب السوري، وبذلك أصبحت شريكاً واقعياً له في سفك دماء الشعب السوري، بالإضافة إلى دفعها بحزب الله اللبناني والعديد من الفصائل الأخرى ذات التوجهات المذهبية للقتال إلى جانب النظام ضد شعبه، ما أضرّ بسمعة إيران الطيبة وأسّس لعداءٍ عميق بينها وبين الشعب السوري الذي تكبّد أثماناً باهظة بسبب تلك المواقف والسياسات الخاطئة.
ولم تكتفِ إيران بذلك، بل اتخذت موقفاً مُشكّكاً في الثورة السورية ومآلاتها بعد سقوط نظام الأسد، فعلى سبيل المثال، صرّحت هيئة الأركان العامّة الإيرانية (في 28 ديسمبر/كانون الأول 2024) بأن "ما حدث في سوريا هو نتيجة لخطة مشتركة أميركية صهيونية"، وأن "نظام الهيمنة بقيادة أميركا يسعى لنهب ثروات الشرق الأوسط، ولن يحقّق مكاسب في سوريا".
وفي سياق متصل، صرّح المرشد الإيراني علي خامنئي قائلاً: "إن الذين اعتدَوا على سوريا سيُجبرون يوماً ما على التراجع أمام قوّة شبابها"، وأضاف: "إنّ سوريا تتعرض لاحتلال من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل ودول إقليمية"، وذلك حسب تعبيره في 1 يناير/كانون الثاني 2025.
الذهاب بعيداً في المواقف المتشددة ليس في مصلحة إيران وعلاقاتها المستقبلية مع سوريا وشعوب المنطقة التي تنحاز إلى الشعب السوري، والوقوف على أطلال النظام السابق لن يعيد لها ما خسرته من مكانة وثقة، ولا سيما أن إيران تعلم تمام العلم أن مسار بشار الأسد كان يبتعد عنها وعن حزب الله وعن المقاومة بعد معركة طوفان الأقصى.
فالجميع تابع عن كثب موقف نظام الأسد السلبي من المواجهة الأخيرة مع الاحتلال، حيث بدأ يبتعد تدريجياً، وصولاً إلى الامتناع عن تأييد المعركة ضد الاحتلال الإسرائيلي عملياً وإعلامياً، كثمن باهظ، على ما يبدو، لإعادة تعويمه في المنطقة وانتقاله من مربع العزلة إلى مربع الاعتراف.
وحتى لا تتعمّق خسائر إيران، فإنها بأمسّ الحاجة إلى مراجعة موقفها من سوريا الجديدة، وذلك بطي صفحة الماضي بكل ما فيها من أخطاء وتجاوزات، وبتأييد تطلعات الشعب السوري نحو الحرية والكرامة والعيش الكريم، وهذا فيه مصلحة أكيدة لها ولحزب الله في لبنان الذي لا يستغني عن التنفّس من الرئة السورية، خاصّة بعد دخول واشنطن على خط رقابة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان وفقاً لموجبات القرار 1701.
إيران وطوفان الأقصى وحزب الله
إسرائيل كانت تقف على قدم واحدة، وتعاني من التخبط والارتباك، أمام أي تهديد محتمل من حزب الله اللبناني، حتى إنها لم تستطع أن تعتدي على خيمة صغيرة نصبها الحزب في مزارع شبعا في يونيو/حزيران 2023، واعتبرتها إسرائيل المحتلة تعدياً سافراً على سيادتها المزعومة.
في معركة طوفان الأقصى، اعتمد حزب الله مقاربة القوة النارية المنضبطة بقواعد اشتباك واضحة المعالم مع الاحتلال، بهدف إسناد غزة ورفع العبء الأمني والعسكري والاقتصادي عن كاهل إسرائيل، أملاً في دفعها إلى وقف إطلاق النار في غزة، وتوقّعاً بأن تلك السياسة أو المعادلة ستُثني إسرائيل عن شن حرب مفتوحة عليه، وسيُعفيه ذلك – كما إيران – من التكاليف المرتفعة والتداعيات الخطيرة.
مقاربة الحزب، التي هي في الأساس مقاربة إيرانية بحكم العلاقة العضوية الوثيقة بين الحزب وإيران، استوعبها الاحتلال الإسرائيلي جيداً، مستفيداً من شبكة أمان عسكرية وأمنية واقتصادية متينة توفرها الولايات المتحدة الأميركية وبعض العواصم الغربية، وفي اللحظة المناسبة، وبعد سنة كاملة من التدمير الممنهج والقتل العشوائي في غزة، استدار الاحتلال بثقله العسكري إلى الشمال، ومع ذلك بقي الحزب ملتزماً بقواعد الاشتباك دون أن يُبادر ويأخذ بزمام المبادرة بشن حرب أو هجوم واسع النطاق على إسرائيل وجيشها المحتشد شمال فلسطين.
علاوة على ذلك، كانت إسرائيل قد اختبرت موقف الحزب وردة فعله وفعل إيران من خلال اغتيال إسماعيل هنية في طهران، وفؤاد شُكر رئيس أركان الحزب في بيروت، فكانت ردود فعلهما، على أهميتها الظاهرية، محدودة وفي سياق قواعد الاشتباك ومعادلات الردع التكتيكي، ما أكّد لإسرائيل بشكل قاطع أن الحزب وإيران يخشيان الحرب ولا يريدان الدخول في أتونها.
هذا حفّز إسرائيل ومنحها الجرأة لتبادر بهجوم أمني كبير على آلاف من كوادر الحزب (عملية البيجر والتوكي ووكي)، واغتيال المئات من القيادات العسكرية، وصولاً إلى اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله، في عمليات أمنية متتالية وفي أيام معدودة، أعقبها بهجوم جوّي مكثّف على الضاحية الجنوبية في بيروت وقرى الجنوب اللبناني.
إذن، خشية إيران والحزب من الحرب، والتزام الأخير بقواعد الاشتباك الصارمة، والظن الخاطئ بأن إسرائيل غير قادرة على خوض معركة كبيرة مع الحزب بسبب استنزافها في غزة، وبأنها ستضطر واقعياً، تحت الضغط الهائل، إلى القبول باتفاق وقف إطلاق النار مع حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، أوقعت إيران والحزب في سوء تقدير فادح دفع الأخير لوقف إطلاق النار والقبول بفك ارتباط المسار اللبناني عن المسار الفلسطيني، والخضوع لاستحقاقات القرار 1701 والذي يفرض انسحاب الحزب من جنوب لبنان تحت إشراف الأمم المتحدة، ومتابعة اللجنة الدولية التي تضم الولايات المتحدة الأميركية الداعم الرئيسي والإستراتيجي لإسرائيل.
ذلك يعني بكل وضوح أن إسرائيل واليمين الصهيوني المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو، قد نجحوا بامتياز في تحييد حزب الله وإضعافه، والاستفراد بحركة حماس والمقاومة الفلسطينية التي تخوض معركة طاحنة ضروس إلى اللحظة الراهنة وبإسناد محدود فقط من اليمن البعيد جغرافياً، في وقت خرج حزب الله وإيران من المواجهة المباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي.
مردُّ هذه النتيجة المؤسفة، أن إيران ربّما أخطأت في حساباتها الاستراتيجية، عندما حالت دون قيام حزب الله بهجوم واسع النطاق وكبير على إسرائيل المحتلة في الأشهر الأولى من المعركة لوقف العدوان الغاشم على غزة، في وقت كانت فيه كتائب القسام والمقاومة الفلسطينية في ذروة قوّتها وعنفوانها، وأخطأت أيضاً عندما حالت دون قيام حزب الله بهجوم قوي وموجع ضد إسرائيل ردًا على اغتيالها رئيسَ أركان الحزب فؤاد شُكر، الأمر الذي ربما لو حصل لكان رَدَع إسرائيل وخلق معادلة سياسية عسكرية جديدة معها لصالح "محور المقاومة" وفلسطين.
خلاصات
سوء التقدير، أفضى إلى أخطاء ذات أبعاد إستراتيجية خطيرة، وخلق مجموعة من التحديات الجسام أمام إيران، في ظل تحوّلات مهمّة ومتسارعة يشهدها الإقليم، ومنها:
- أولاً: تفكّك ما عُرف بوحدة ساحات المقاومة، حيث تَبَدّى أنها فكرة طوباوية متخيّلة أكثر منها واقعاً ملموساً بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح واستحقاقاته، وسيحل محلّها التنسيق والتعاون المحدود، وهذا سيؤدّي حتماً إلى تراجع حضور إيران في العديد من الملفّات والساحات، لا سيّما بعد تغيّر الأوضاع في سوريا لغير صالح إيران، وبعد تراجع قوّة حزب الله السياسية والعسكرية في لبنان، نتيجة اتفاق وقف إطلاق النار واستحقاقاته بموجب القرار الأممي 1701.
- ثانياً: سلوك إيران وتأثيرها الواضح على أداء حزب الله العسكري، من حيث ضبط الإيقاع والتحكم بوتيرة العمليات، عقب السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 (معركة طوفان الأقصى)، أكّدا بما لا يدع مجالاً للشك أن حسابات إيران ومصالحها الوطنية السيادية مُقدّمة على ما سواها من الملفات الخارجية والإقليمية، وهي تدعم وتتقاطع مع أصدقائها وحلفائها على قاعدة التخادم وتبادل المصالح وحسب متطلبات أمنها القومي أولاً، واتساقًا مع مقتضيات مجالها الحيوي الذي يصل إلى شرق المتوسّط، والبحر الأحمر وبحر العرب جنوبًا، حتى باكستان شرقًا، وآسيا الوسطى شمالًا، وهذا سلوك طبيعي كلاسيكي متوقّع لدولة كبيرة بحجم إيران، بمعنى أن إيران لا تقاتل نيابة عن أحد، وإنما تدافع عن مصالحها الاستراتيجية أولاً وأخيراً.
- ثالثاً: قد تتعرّض إيران مع قدوم الرئيس ترامب، لحصار أميركي أشد قسوة، وربّما لضربة عسكرية موجعة لمشروعها النووي، بالتنسيق الوثيق بين تل أبيب وواشنطن، بعد أن استطاعت إسرائيل إضعاف حزب الله، وهو ما تراه بعض المصادر الإسرائيلية فرصة ذهبية سانحة لاستثمارها في ضرب إيران، ما قد يدفع طهران إلى تغيير نهجها الاستراتيجي بالانكفاء إلى الداخل على حساب دعمها لساحات وقوى المقاومة في المنطقة، لا سيّما مع صعود التيار الإصلاحي الذي يُنظّر لفكرة "إيران أولاً" ويسعى جاهداً لمد جسور التفاهم والتعاون مع واشنطن والغرب عموماً.
- رابعاً: ستواجه إيران، في سياق التنافس السياسي المحتدم في الإقليم، دولة تركيا التي تتمتّع بقوّة ونفوذ وحضور متنامٍ، لا سيّما بعد التحوّل الدراماتيكي في سوريا الذي جاء لصالحها، والذي سيكون له أثر كبير على لبنان وحزب الله الحليف العضوي لإيران.
هذا، في وقت نجحت فيه تركيا نجاحاً باهراً في التمدّد عبر آسيا الوسطى من خلال دعمها اللامحدود لأذربيجان وانتصارها الساحق في حربها ضد أرمينيا الصديقة لطهران (الصراع المرير حول إقليم ناغورني قره باغ)، وعبر نفوذ أنقرة المتزايد من خلال مجلس الدول الناطقة بالتركية المعروف باسم "المجلس التركي" أو "منظمة الدول التركية" والذي يضم تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان، هذا ناهيك عن محاولات تركيا الحثيثة والمستميتة لزيادة حضورها وتوسيع نفوذها عبر الشراكات الاقتصادية الضخمة والصناعات العسكرية المتطوّرة مع دول الخليج العربي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.
إذن، كيف ستتعامل إيران مع هذه المتغيّرات المهمّة والجذرية التي أحدثها زلزال "طوفان الأقصى" المدمر؟
هل ستنكفئ على ذاتها وتغير إستراتيجيتيها الأساسية بانسحابها التدريجي من قيادة ما عُرف بـ "محور المقاومة"؟ أم إنّها ستتقدّم إلى الأمام بكل ثقة وعزم لصناعة أو تثبيت واقع جديد مُختلف تماماً، في بحر متلاطم الأمواج العاتية، ولم يهدأ لهيبها بعد؟